فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ}.
أي: الله تعالى للمعبودين، تقريعًا لعبدتهم: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} أي: عن السبيل بأنفسهم، لإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن المرشد: {قَالُوا سُبْحَانَكَ} تعجبًا مما قيل لهم. لأنهم إما ملائكة معصومون أو جمادات لا قدرة لها على شيء. أو تنزيهًا له عن الأنداد: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أي: نعبدهم فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليًّا غيرك، أو من أولياء أي: أتباعًا للعبادة: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون، بعد بيان تنزههم عن إضلالهم. وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابًا للضلالة. أي: ما أضللناهم. ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم، ليعرفوا حقها ويشكروها. فانهمكوا في الشهوات حتى نسوا الذكر، أي: ذكرك. أو التذكر في آلائك، والتدبر في آياتك، فجعلوا أسباب الهداية، بسوء اختيارهم، ذريعة إلى الغواية- أفاده أبو السعود: {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} أي: هالكين. ثم أشار تعالى لاحتجاجه على عبدتهم وإلزامهم ما يبكتهم، بقوله: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} أي: المعبودون، أيها الكفرة: {بِمَا تَقُولُونَ} أي: في قولكم إنهم آلهة. أو في قولكم هؤلاء أضلونا: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} أي: ما تملكون: {صَرْفًا} أي: دفعًا للعذاب عنكم بوجه ما: {وَلا نَصْرًا} أي: لأنفسكم من البوار: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} أيها المكلفون، كدأب هؤلاء: {نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}. ثم أجاب عن شبههم السابقة، بقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}.
أي: لَيحتاجون إلى التغذي بالطعام ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة. وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم. فإنه تعالى جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة القاهرة، ما يستدل به كل ذي لب به كل سُلَيم وبصيرة مستقيمة، على صدق ما جاءوا به من الله. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} (8).
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: في الآية إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الصلاح خلافًا لمن كرهها لهم.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} قال الزمخشريّ: هذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق. بعدما احتج عليهم بسائر الرسل. يقول: وجرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم، أيها الناس، ببعض. والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم. وبمناصبتهم لهم العداوة. وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل. ونحوه: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عِمْرَان: 186]، وفي قوله تعالى: {وكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} زيادة تسلية وعدة جليلة. أي: هو عالم فيما يبتلي به وغيره، فلا يضق صدرك. فإن في صبرك سعادة وفوزًا في الدارين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}.
عُطف {ويوم نحشرهم} إما على جملة: {قل أذلك خير} [الفرقان: 15] إن كان المراد: قل للمشركين، أو عُطف على جملة: {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا} [الفرقان: 11] على جواز أن المراد: قل للمؤمنين.
وعلى كلا الوجهين فانتصاب {يوم نحشرهم} على المفعولية لفعل محذوف معلوم في سياق أمثاله، تقديره: اذكر ذلك اليوم لأنه لما توعدهم بالسعير وما يلاقون من هولها بيّن لهم حال ما قبل ذلك وهو حالهم في الحشر مع أصنامهم.
وهذا مظهر من مظاهر الهول لهم في المحشر إذ يشاهدون خيبة آمالهم في آلهتهم إذ يرون حقارتها بين يدي الله وتبرؤها من عُبّادها وشهادتها عليهم بكفرانهم نعمة الله وإعراضهم عن القرآن، وإذ يسمعون تكذيب من عبدوهم من العقلاء من الملائكة وعيسى عليهم السلام والجن ونسبوا إليهم أنهم أمروهم بالضلالات.
وعموم الموصول من قوله: {وما يعبدون} شامل لأصناف المعبودات التي عبدوها ولذلك أوثرت ما الموصولة لأنها تصدق على العقلاء وغيرهم.
على أن التغليب هنا لغير العقلاء.
والخطاب في {أأنتم أضللتم} للعقلاء بقرينة توجيه الخطاب.
فجملة: {قالوا سبحانك} جواب عن سؤال الله إياهم: {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل}، فهو استئناف ابتدائي ولا يتعلق به {يوم نحشرهم}.
وقرأ الجمهور: {نحشرهم} بالنون و{يقول} بالياء ففيه التفات من التكلم إلى الغيبة.
وقرأه ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب {يحشرهم ويقول} كليهما بالياء.
وقرأ ابن عامر {نحشرهم ونقول} كليهما بالنون.
والاستفهام تقريري للاستنطاق والاستشهاد.
والمعنى: أأنتم أضللتموهم أم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم.
ففي الكلام حذف دل عليه المذكور.
وأخبر بفعل: {أضللتم} عن ضمير المخاطبين المنفصل وبفعل {ضلّوا} عن ضمير الغائبين المنفصل ليفيد تقديم المسند إليهما على الخبرين الفعليين تقوي الحكم المقرر به لإشعارهم بأنهم لا مناص لهم من الإقرار بأحد الأمرين وأن أحدهم محقق الوقوع لا محالة.
فالمقصود بالتقوية هو معادل همزة الاستفهام وهو: {أم هم ضلوا السبيل}.
والمجيبون هم العقلاء من المعبودين الملائكة وعيسى عليهم السلام.
وقولهم: {سبحانك} كلمة تنزيه كني بها عن التعجب من قول فظيع.
كقول الأعشى:
قد قلت لما جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر

وتقدم في سورة النور (16): {سبحانك هذا بهتان عظيم} واعلم أن ظاهر ضمير {نحشرهم} أن يعود على المشركين الذين قرعتهم الآية بالوعيد وهم الذين قالوا: {مال هذا الرسول يأكل الطعام} إلى قوله: {مسحورًا} [الفرقان: 7، 8]؛ لكن ما يقتضيه وصفهم ب {الظالمون} والإخبار عنهم بأنهم كذبوا بالساعة وما يقتضيه ظاهر الموصول في قوله: {لمن كذب بالساعة} [الفرقان: 11] من شمول كل من تحقق فيه مضمون الصلة، كل ذلك يقتضي أن يكون ضمير {نحشرهم} عائدًا إلى {من كذب بالساعة} فيشمل المشركين الموجودين في وقت نزول الآية ومن انقرض منهم بعد بلوغ الدعوة المحمدية ومن سيأتي بعدهم من المشركين.
ووصف العباد هنا تسجيل على المشركين بالعبودية وتعريض بكفرانهم حقها.
والإشارة إليهم لتمييزهم من بين بقية العباد.
وهذا أصل في أداء الشهادة على عين المشهود عليه لدى القاضي.
وإسناد القول إلى ما يُعبدون من دون الله يقتضي أن الله يجعل في الأصنام نطقًا يسمعه عبدتها، أما غير الأصنام ممن عبد من العقلاء فالقول فيهم ظاهر.
وإعادة فعل {ضلوا} في قوله: {أم هم ضلوا السبيل} ليجري على ضميرهم مسند فعلي فيفيد التقوّي في نسبة الضلال إليهم.
والمعنى: أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم.
وحق الفعل أن يعدى بعن ولكنه عدي بنفسه لتضمنه معنى أخطؤوا، أو على نزع الخافض.
و{سبحانك} تعظيم لله تعالى في مقام الاعتراف بأنهم ينزهون الله عن أن يدّعوا لأنفسهم مشاركته في الإلهية.
ومعنى: {ما كان ينبغي لنا} ما يطاوعنا طلب أن نتخذ عبدة لأن انبغى مطاوع بغاه إذا طلبه.
فالمعنى: لا يمكن لنا اتخاذنا أولياء، أي عبادًا، قال تعالى: {وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي} [ص: 35].
وقد تقدم في قوله تعالى: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدًا} في سورة مريم (92).
وهو هنا كناية عن انتفاء طلبهم هذا الاتخاذ انتفاء شديدًا، أي نتبرأ من ذلك، لأن نفي كان وجعل المطلوب نفيه خبرًا عن كان أقوى في النفي ولذلك يسمى جحودًا.
والخبر مستعمل في لازم فائدته، أي نعلم أنه لا ينبغي لنا فكيف نحاوله.
و{من} في قوله: {من دونك} للابتداء لأن أصل دون أنه اسم للمكان، ويقدر مضاف محذوف يضاف إليه دون نحو: جلست دون، أي دون مكانه، فموقع من هنا موقع الحال من {أولياء}.
وأصلها صفة ل {أولياء} فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالًا.
والمعنى: لا نتخذ أولياء لنا موصوفين بأنهم من جانب دون جانبك، أي أنهم لا يعترفون لك بالوحدانية في الإلهية فهم يشركون معك في الإلهية.
وعن ابن جني: أن من هنا زائدة.
وأجاز زيادة من في المفعول.
ومن في قوله: {من أولياء} مزيدة لتأكيد عموم النفي، أي استغراقه لأنه نكرة في سياق النفي.
والأولياء: جمع الولي بمعنى التابع في الولاء فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء، أي على السيد والعبد، أو الناصر والمنصور.
والمراد هنا: الوليّ التابع كما في قوله: {فتكون للشيطان وليًا} في سورة مريم (45)، أي لا نطلب من الناس أن يكونوا عابدين لنا.
وقرأ الجمهور {نتخذ} بالبناء للفاعل.
وقرأه أبو جعفر {نتخذ} بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول، أي أن يتخذنا الناس أولياء لهم من دونك.
فموقع {من دونك} موقع الحال من ضمير {نتخذ}.
والمعنى عليه: أنهم يتبرَّؤون من أن يدعوا الناس لعبادتهم، وهذا تسفيه للذين عبدوهم ونسبوا إليهم موالاتهم.
والمعنى لا نتخذ من يوالينا دونك، أي من يعبدنا دونك.
والاستدراك الذي أفاده لكن ناشىء عن التبريء من أن يكونوا هم المضلين لهم بتعقيبه ببيان سبب ضلالهم لئلا يتوهم أن تبرئة أنفسهم من إضلالهم يرفع تبعة الضلال عن الضالين.
والمقصود بالاستدراك ما بعد حتى وهو {نسوا الذكر}.
وأما ما قبلها فقد أدمج بين حرف الاستدراك ومدخوله ما يسجل عليهم فظاعة ضلالهم بأنهم قَابَلوا رحمةَ الله ونعمتَه عليهم وعلى آبائهم بالكفران، فالخبر عن الله بأنه متّع الضالين وآباءهم مستعمل في الثناء على الله بسعة الرحمة، وفي الإنكار على المشركين مقابلة النعمة بالكفران غضبًا عليهم.
وجعل نسيانهم الذكر غاية للتمتيع للإيماء إلى أن ذلك التمتيع أفضى إلى الكفران لخبث نفوسهم فهو كجَوْد في أرضضٍ سبخةٍ قال تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82].